قد تكون ظاهرة الرجال الذين يسبقون عصرهم ظاهرةً عالمية، لكنها أكثر وضوحًا في منطقتنا. فرجلٌ كـ سعادة، بفكره التنويري الحضاري، رأى ما لم يره غيره، وطرح نظرية تستحق أن تُدرَس، وتُحترم، وتُتأمَّل بعمقٍ يستحقه فكرُه—لا أن تُقابل بالتفكير السطحي والسطحيّة التي وُوجهت بها أفكاره في بداياتها.
إن كل التطورات الجارية اليوم على الساحة العربية، والانشقاقات العميقة داخل جامعة الدول العربية، تقف في تناقض صارخ مع ما حققه القوميون السوريون إلى جانب المقاومة الوطنية في لبنان، ومع تضحيات الشهداء الأبرار الذين بذلوا أرواحهم في سبيل قضيتهم—ابتداءً من سنا مهيدلي، ومرورًا بآلاف غيرها من الأوفياء لوطنهم. وكل هذا ينبغي أن يدفع كل سوريٍّ وطنيٍّ إلى إعادة النظر بعمقٍ في نظريات سعادة، ومحاولة فهمها بطريقةٍ تختلف عن التفسير المبسّط الذي اعتمده منتقدوه سابقًا.
فعلى سبيل المثال، حين دعا سعادة إلى فكرة الأمة السورية الكاملة، زعم خصومه أن التاريخ ينقض هذه النظرية بسبب الهجرات المستمرة عبر سورية الطبيعية. لكنهم إما نسوا أو تجاهلوا عمداً أن كل أمة عبر التاريخ عاشت هجرات، بعضها انصهر داخلها، وبعضها بقي متميّزًا. كما تجاهلوا أن سعادة نفسه كان أول من تحدّث عن الانصهار الحضاري للحضارات في هذه المنطقة الفريدة—قلب العالم النابض. لذا، لا أرى أي تناقضٍ حقيقيٍّ في نظريته، كما زعموا حين ناقشوها بشكل سطحي.
ومرةً أخرى، حين اعترض الناقدون على ما سموه “الزوائد” التي أدخلها سعادة في مشروعه لسورية الطبيعية—وخصوصًا العراق وكردستان وسيناء وقبرص—زاعمين أنها لم تنتمِ تاريخيًا إلى أي مملكة سورية إلا في عهد الدولة الأموية، أتساءل: هل لم يسمع هؤلاء المثقفون قطّ عن مملكة ماري، ولا عن البابليين، ولا عن السومريين، ولا حتى عن الفينيقيين؟ أليس كل هؤلاء جزءًا من الحضارات التي ازدهرت في هذه المنطقة، وبنَت ثقافةً أصبحت لاحقًا منارةً للحضارة في العالم أجمع؟
هنا، أُدهش من مثقفينا الذين يقلّلون من عظمة حضارة هذه الأمة، في حين أن أحد أبرز مؤرخي أوروبا قال يومًا:
“على كل إنسان متحضر في العالم أن يقول: لي وطنان—وطني الأصلي، وسورية.”
أليس من أقسى المفارقات أن يرى الغرباء عظمة حضارتنا، بينما لا يراها مثقفونا؟ أم أن مصير هذه الأمة أن تفقد عظماءها ومفكريها أولاً، ثم تفقد ضميرها، ثم تفقد ذاتها في النهاية؟
لقد كان سعادة بطلاً في حياته، وفي فكره، وفي كفاحه، كما كان بطلاً في استشهاده من أجل قضيته. وكان من أوائل المفكرين الذين أثبتوا استعدادهم للموت من أجل مبادئهم. وأختم هنا بسرد لحظة إعدامه: حين طُلب منه أن يتنازل عن مبادئه—لفظيًا وبشكل شكلي—مقابل أن يُمنَح حياته، عارفًا أن بقاءه مرهونٌ بكلمةٍ واحدةٍ تخرج من شفتيه، رفض. وقال كلمته الخالدة:
“الحياة موقف كرامة.”
فأُعدم في تلك اللحظة.
حقًّا… ما أعظم هذا القائد!
الحياةُ فعلاً موقفُ كرامة.
يتبع…
المهندس حسّان صفوان دالاتي
٢٠٠٩/٠٣/٠٧
